16/09/2023 - 13:02

اليقظة العقليّة في فلسطين | أرشيف

اليقظة العقليّة في فلسطين | أرشيف

صورة لأوّل مهندس صوت عَمِلَ في دار إذاعة «هنا القدس»، وقد استُشهِدَ في مقرّها على يد العصابات الصهيونيّة | أرشيف أحمد مروات.

 

المصدر: «مجلّة الأديب».

زمن النشر: 1 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1946.

الكاتب: عبد العزيز ياسين الغربلي.

العنوان الأصليّ: «اليقظة العقليّة في فلسطين».

 


 

تعرّضتُ في مقال سابق نشرته في «مجلّة الأديب» الغرّاء، للحياة الأدبيّة والاجتماعيّة في فلسطين، وما أصابها من فتور وركود من جرّاء ندرة الوسائل الّتي تُظهرها للعالم قويّة واضحة وجليّة، وقد لمنا فيه جماعة الأدباء والكتّاب في تلك البلاد بصفتهم قادة الفكر في البلاد، ومدار كلّ حركة فكريّة وثقافيّة تظهر فيها. ومَنْ أحقّ باللوم من هذه الطبقة الممتازة الّتي أوقفت نفسها على خدمة الأدب والرفع من شأنه، وغرس بذوره الطيّبة في نفوس أفراد الأمّة، الّتي هي لا شكّ تهتدي بهديهم وتستنير بآرائهم وتصغي إلى توجيههم نحو المثل العليا في الحياة؛ فهي إذن الطبقة المسؤولة عن كلّ ما يصيب الأدب من جمود، وما يلحق بالثقافة من فتور وركود، يخشى أن يكون سببًا في تبلبل أفكار الأمّة وفقدانها نعمة الأدب.

 

إهمال النشر 

وقد كان لومنا محصورًا في ناحية واحدة، وهي إهمالهم شؤون النشر والتأليف الّذي أوشك أن يكون معدومًا عندهم، إذا استثنينا بعض التآليف القليلة والمجلّات والصحف الّتي لا تبلغ أصابع اليد عدًّا، والّتي لا تفي بالغرض المطلوب منها؛ فهؤلاء الأدباء والكتّاب سامحهم الله ضنّوا على القارئ بثمرات عقولهم وأفكارهم، وحرموه من نتاج قرائحهم الّذي هو أحوج ما يكون إليها. ولعلّ القارئ الكريم يوافق معي على أنّ الغذاء الروحيّ عند القارئ المثقّف ثقافة صحيحة، ضروريّ بالنسبة إليه كضرورة طعامه وشرابه؛ فالقارئ اللبيب إذن يريد أن يغذّي روحه وعقله يمختلف الفنون الأدبيّة والاجتماعيّة الّتي هي لا شكّ تُدْخِلُ إلى حياته المادّيّة الجافّة حياة روحيّة فيها ترويض للعقل، وصفاء للنفس وتنوير للذهن. وقد أدّى إهمال الأدباء والكتّاب لشؤون النشر والتأليف إلى شلّ الحركة الفكريّة في البلاد، ثمّ جرّ هذا الشلل الأمّة إلى التخلّف عن ركب النهضات الأدبيّة والاجتماعيّة الّتي نعمت بها الأقطار العربيّة الّتي نالت مكانة ملحوظة في هذا المضمار.

وأراني الآن أمام الواجب يدعوني أن أشيد بذكر لبنان العربيّ، وأحيّي أبناءه الّذين رفعوا مكانة بلادهم بين الأمم العريقة في الرقيّ والحضارة، بالرغم من الأحداث السياسيّة والانقلابات الوطنيّة الّتي طرأت على حياته الحديثة؛ فبدلًا من أن تُضْعِف هذه الهزّات السياسيّة العنيفة روح الأدب والثقافة في أبنائه، زادتها قوّة فوق قوّتها، ويسّرت للفكر أن ينطلق من عنانه ليضيء للأمّة سبيل العلم والعرفان. وبهذه المناسبة، نردّ على حضرات الأدباء المحترمين في فلسطين، الّذين كان جوابهم على ما قلناه بصدد ضآلة الإنتاج الأدبيّ عندهم، أنّ من جملة الأسباب المهمّة الّتي أدّت إلى هذا النقص الأدبيّ الكبير في فلسطين هو ما تجتازه البلاد من مراحل سياسيّة خطيرة تكتنف حياتها، في الوقت الّذي تنعم فيه الأمم العربيّة الأخرى بحياة الهدوء والاستقرار، ثمّ ذكروا الثورات الطاحنة الّتي ذهب ضحيّتها الكثيرون من أبناء البلاد المثقّفين.

ونحن لا يسعنا أمام هذا إلّا أن نحني الرأس إجالًا لمواقف البطولة والتضحية الّتي قام بها الشعب الفلسطينيّ الكريم، شاكرين له هذه التضحيات القوميّة الّتي بذل فيها الغالي والنفيس في سبيل فلسطين العزيزة على العرب أجمعين. إلّا أنّنا لا نتعدّى الحقيقة إذا رفضنا التسليم بأنّ هذه الأحداث الجسيمة تؤثّر هذا التأثير البالغ في حياة الأدب في فلسطين، لأنّ شعبا راقيًا كشعب فلسطين لا يجب أن يؤثّر في طريق تقدّمه أيّ عارض مهما كان هذا العارض كبيرًا وعظيمًا.

 

بوادر يقظة 

وإذا ما استشهدنا بالواقع على مدى تقدّم الشعب الفلسطينيّ النبيل، ثَبَتَ لنا أنّ نسبة المتعلّمين بين العرب في فلسطين أكثر منها في مصر والعراق. غير أنّنا إذا أردنا المقارنة بين وفرة الإنتاج الأدبيّ والاجتماعيّ في كلّ من هذه الأقطار، لكانت النتيجة تفوّق مصر والعراق على فلسطين تفوّقًا محسوسًا مع نظرتنا إلى بعض النواحي المهمّة المتعلّقة بالشؤون السياسيّة والاقتصاديّة الّتي حرمت منها فلسطين العربيّة.

ممّا يجدر ذكره في هذا المقام أنّ ما مرّت به فلسطين من عراقيل وصعوبات في حياتها العامّة، وما عانته من ألم الحرمان وخنق الحرّيّة، قد ولّد فيها أدبًا قوميًّا محضًا، تنبعث منه روح الوطنيّة قويّة جارفة، هي صدى ما تقاسيه هذه النفوس الكريمة من مرارة وعذاب، حتّى كاد هذا الأدب القوميّ المتلهب يطغى على الأدب العاطفيّ الرقيق، ولولا ضيق المجال لأسهبنا في تحليل العوامل المؤثّرة على الأدب العربيّ في فلسطين. أمّا الآن، فنحن نحمد الله مسرورين مغتبطين لما نراه اليوم في فلسطين من يقظة عقليّة وتوقّد ذهنيّ بدت ظواهره كأوضح ما تكون في طول البلاد وعرضها، وقد أصبح لهذه اليقظة أثرها العظيم في تحوّل مجرى الأدب في فلسطين؛ فقد قفزت الحياة الأدبيّة والاجتماعيّة هناك قفزة إلى الأمام هي من غير شكّ مقدّمة لتقدّم سريع حثيث.

يصحّ الآن أن نقول أنّ ما تمنّيناه وناشدنا الأدباء والكتّاب في فلسطين من أجله قد تحقّق، وأتى كما نريده ونبتغيه، فبعد أن كنّا نلومهم على إهمالهم شؤون النشر والتأليف الّذي كان سببًا قويًّا في كبت أنفاس الحياة الأدبيّة في تلك البلاد، وحصر ثمراتها في لفائف العقول وجنبات النفوس، ممّا أثار الدهشة والحيرة والاستغراب عند الكثيرين من عشّاق الأدب ومحبّي الاطلاع؛ فبعد أن كنّا كذلك، نرانا اليوم مرحّبين بتباشير الإنشاء والتأليف الّذي قام به شباب فلسطين المثقّف. فقد كانت فلسطين حتّى الماضي القريب جدًّا لا تمتلك من الوسائل ما يمكّنها تأدية رسالتها الأدبيّة والثقافيّة كاملة غير منقوصة، إذ أنّ ذلك لا يتوفّر إلّا بإيجاد الصحف والمجلّات وتأليف الكتب الأدبيّة والاجتماعيّة. وقد كانت فلسطين تفتقر كلّ الافتقار لمثل هذه الوسائل،

أمّا الآن فقد تغيّر الحال غير الحال، وظهرت في فلسطين مجلّات أدبيّة واجتماعيّة عديدة شعارها النزاهة وخدمة الأدب والعلم، فتسنّى لحملة الأقلام من رجال الأدب والعلم أن ينشروا بين صفحاتها ما تجود به قرائحهم من مواضيع اجتماعيّة أو بحوث أدبيّة تعبّر عمّا يضطرم في نفوسهم من آمال وآلام، وما تفيض به قلوبهم من لواعج. وكذلك كان شأن الصحف اليوميّة والأسبوعيّة، فقد ازداد عددها إلى خمس جرائد بعد أن كانتا اثنتين، وهذه الصحف يسّرت للقارئ العربيّ الاطلاع على مجرى السياسة العالميّة، فضلًا عمّا تضمّه بين صفحاتها من الأخبار والطرائف، والتأليف، وإن يكن الاهتمام به أقلّ من الاهتمام بالمجلّات والصحف، إلّا أنّه يعطي القارئ صورة صادقة لرقيّ الأدب الفلسطينيّ الحديث بنوعيه القوميّ والعاطفيّ، بالإضافة إلى متانة أسلوب هذه التآليف وقوّة عبارتها.

والخلاصة أنّ الأدب العربيّ في فلسطين الآن يخطو خطواته الواسعة نحو الكمال، وهكذا يثبت الأدباء وقادة الفكر في تلك البلاد الشقيقة أنّهم في مقدّمة الأدباء والكتّاب الّذين يرعون الأدب ويذودون عنه في سبيل خير الإنسانيّة.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.

 

التعليقات